Blog Archive

Wednesday, December 27, 2006

كان يَكْبرُ بالناس

.
في آخر خطاب ألقاه الشيخ الجمري قبل اعتقاله الأخير في يناير/ كانون الثاني ,1996 بدا الشيخ متألقاً في موقعه الذي استحقه بنضاله وعبر انغماسه في هموم الناس، قائداً وطنياً وليس مجرد رجل دين مرموق ذي قاعدة ريفية. في ذلك الخطاب الذي افترق فيه بشكل حاسم عن وجهاء الطائفة ومشايخها أعلن رفضه للحلول القائمة على المقايضة. وبعد أن أشار إلى وعودٍ تلقّاها بحل ‘’تظلمات الطائفة’’ نصح الحكومة أن تفكر بمسؤولية أكبر مؤكداً على ‘’إن أي حل يجب أن يكون شاملاً بما فيه الكفاية ليشمل جميع الاتجاهات وطوائف المجتمع. وأن أي مبادرة تفتقد لهذا العامل هو حل جزئي وغير كامل وبالتالي مرفوض. لقد سمعنا أن هناك بعض التحركات لتحسين الأوضاع المعيشية للشيعة. أن بعض رجال الأعمال الشيعة يقودون مثل هذا التحرك. أن هذه مبادرة قصيرة النظر لأنها تحول النظر عن المطالب بالإصلاح السياسي وتركز على الأوضاع المعيشية فقط. أن مثل هذا التحرك مقيض لها أن تخلق الانقسام في أوساط الأمة التي تعمل على أهداف موحدة وواضحة’’
.
ما هو تاريخي في كلمات أبي جميل هذه هو إمكانية نسبتها إلى أي من قياداتنا الوطنية. فلقد قال مثلها عبدالرحمن الباكرُ وعبدعلي العليوات كما كرر مثلها من بعدهما الشيخ عيسى الجودر وأحمد الشملان. وهي كلمات تعكس اقتناعا كان قد تبلور لدى الشيخ الجمري من خلال انغماسٍ في هموم الوطن جعله يلتقي بمناضلين من كل الأطياف والمذاهب بل وحتى بمن ليس له مذهب. ولا شك لديّ في إن ما أوصله إلى هذا الاقتناع هي تجربته الشخصية بما تضمنته من صمود أمام إغراءات مادية ورمزية وما تضمنته من حرمان من العمل وسجن وتعريض للاهانات ومحاولات الاغتيال الرمزي. لقد تعرض لما تعرض له آخرون ممن سبقوه على الدرب نفسه أو ممن أتوا بعده. ولقد عرف الشيخُ شخصياً الكثير من هؤلاء. فصار كبيراً بين كبار. وأدرك جواب السؤال الذي مازال بعضُنا غير قادرٍ على استيعابه. كيف يمكن لشيعي فقير أن يأخذ استحقاقاته كمواطن من دون أن يحصل السنيُ الفقير أيضاً على استحقاقاته كمواطن؟. وهذا الجواب لا يكمن في انتزاع ‘’استحقاقات’’ الطائفة أو المنطقة أو القرية بل هو يكمن في حصول كل مواطن على استحقاقات المواطنة الدستورية بما فيها المساواة وتكافؤ الفرص
.
لم يكن أحدٌ يجرؤ وقتها مخالفة هذا الاقتناع الذي توصل إليه الشيخ الجمري والذي عبر عنه بالتقاء بالميامين الآخرين ممن وقعوا معه عريضة 1992 وبعدها عريضة .1994 ولم يكن أحدٌ يجرؤ وقتها على تحريم التواصل بين أفراد الشعب الواحد تحت راية عدم التمكين وبحجة ‘’حماية المواقع الإيمانية من تسلل الفكر الآخر ورموزه’’. صحيح إن كثيرين قد قالوا مثل هذا الكلام التشتيتي، همساً وعلناً قبل عريضة 1992 وبعدها. وصحيح إن هناك من لايزال يصّر على رفض الاقتناع الذي توصل إليه الشيخ الجمري قبل عقدين. إلا إن خبرة عقود من نضال الحركة الوطنية والمطلبية تؤكد أن أعباء النضال من أجل حقوق الناس وفي سبيل بناء الدولة الديمقراطية العادلة والقادرة على ضمان المساواة بين جميع مواطنيها هي أعباءٌ أكبر من أن يحملها فصيلٌ سياسيٌ واحد أو أن تتحرك من أجلها طائفةٌ واحدة أو أن يقودها رجلٌ واحد حتى ولو رفع مصاحفَ البلد كافة على رؤوس الرماح
.
كانت أجهزة الأمن تعرف خير معرفة ما توصل الشيخ الجمري إليه وكانت تخشى من تفاعلاته. ولعل من المناسب في هذا الصدد أن أشير إلى مجيء الأخ حسن مشيمع إلى لندن بصحبة عددٍ من الأخوة ممن تم إطلاق سراحهم في نهاية أغسطس/ آب 1995 ضمن جولة كانت ستشمل فيما بعد سوريا وإيران وكان هدف الجولة هو التفاهم مع قيادات المعارضة المقيمة في الخارج حول ما عُرفَ وقتها بالمبادرة، أي الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين عددٍ من القياديين والرموز المعتقلين ومن بينهم الشيخ الجمري وبين الطرف الحكومي ممثلاً بإيان هندرسون ووزير الداخلية في بداية ذلك الشهر. ولقد حضرتُ بعض ما تيسر من هذه اللقاءات وشاركتُ في انتقاد المبادرة وآلية التوصل إليها ومراميها. ولم تكن مشاركتي في النقاش مُستغربةً من أحد. بل إن الأخ حسن مشيمع أشار مستهزئاً بضابط الأمن الذي سهّل سفر الوفد من البحرين وقال لهم وهم يهمّون بدخول الطائرة إن استطاعتهم مقابلة من شاءوا ولكن عليهم تحاشي الالتقاء بمن سماهم بالشيوعيين من أمثال فلان. وبطبيعة الحال لم يمتثل احدٌ لتلك النصيحة. فحين كان الجمري في صدارة العمل الوطني لم يكن معقولاً ولا مقبولاً أن يقوم مناضلون بعزل مناضلين آخرين أو الاعتزال عنهم
.
لم يكن موقف الشيخ الجمري مربوطاً بظرفه الزمني أو بمقتضيات شكلية يفرضها ذلك الزمن. ولي في هذا تجربة شخصية أودُ تسجيلها. فحين عدتُ إلى البحرين ضمن من عاد من المنفيين وجدَ بعض الأخوة من المتدينين ممن جمعتني بهم أنشطة المعارضة في الخارج حرجاً في المجيء إلى مجلسنا كي لا يتعرضوا لما تعرّضَ له أخونا ‘’أبو آلاء’’ من تقريع علني بسبب إشادته بمناضلي الحركة الوطنية وبدور تضحياتهم في وصول البلاد إلى مشارف الإصلاح. إلا إن الشيخ الجمري لم يكن في حاجة إلى تصغير دور الآخرين كي يبدو كبيراً في عين نفسه. ولهذا لم يلتفت لترهات قيلت عن ‘’التمكين’’ ولم يتوان عن تهننئني بسلامة الوصول ليس سراً أو عبر المراسيل أو بالتلفون كما فعل آخرون. بل هو أبى، وهو الكبير الذي يُزار، إلا أن يشرفني وبقية العائلة بالمجيء إلى مجلسنا في بيت عمي الحاج جاسم. يومها عرف كل من حضر ذلك اللقاء الحميم إن إنساناً في مكانة الشيخ الجمري لا يمكن أن يخاف لحظة من أن أحداً سيأخذ منه موقعاً أو يسرق منه بريقاً. حقاً كان الشيخ الجمري كبيراً وسيبقى كبيراً لأنه كَبِرَ مع الناس وبهم
.
.
.

No comments: