.
دخلت الكلمة الفرنسية ‘’شانتاج’’ إلى اللغة السياسية اللبنانية لتوصيف محاولة أحد الأطراف تغيير مواقف أطراف أخرى عبر استخدام أشكال التهديد المعلنة أو المضمرة. وتتراوح ممارسات الشانتاج من الابتزاز والتهديد باستخدام العنف إلى المساومات الاعتيادية وتبادل المنافع. وبمعناها التهديدي تصلح الكلمة لتوصيف ممارسات اجتماعية أخرى يومية ضمن العائلة وفي أماكن العمل وبين الأصحاب. ا
سواء أَتمت ممارسة ‘’الشانتاج’’ داخل الأطر السياسية أو في خارجها، فإنه يتأثر بميزان القوة بين الأطراف المعنية. بعضنا ينجح في كل مرة يمارس ‘’الشانتاج’’ فيها وبعضنا ينجح أحيانا ويفشل أحياناً أخرى، وبعضنا لا تنجح أيٌ من محاولاته. كذلك يؤثر ميزان القوى في الموقف الأخلاقي من استخدام التهديد المعلن أو المضمر في إدارة شؤوننا السياسية والاجتماعية وحتى الحميمية. فحين يتمتع طرفٌ بالأفضلية في ذلك الميزان تُحْسَب تهديداته مناورات ذكية تدل على بعد نظر وعمق تحليل. أما ممارسات غيره فهي، في أحسن الأحوال، محاولات فاشلة ومكشوفة للابتزاز السياسي.ا
بطبيعة الحال ثمة عوامل إضافية تستطيع تحييد أثر ميزان القوة في إنجاح التهديد أو إفشاله. سأتناول بعض هذه العوامل بعد المرور على نموذجيْن بحرينييْن على استخدام ‘’الشانتاج’’. قبل سنة، وفي شهر رمضان 1427هـ قدَّم خليفة الظهراني نموذجاً مدرسياً ‘’للشانتاج’’ الناجح بكل المعايير. فبسبب اعتكافه في العشر الأواخر من رمضان انتشرت ‘’إشاعات’’ عن عدم رغبته في إعادة ترشيح نفسه. ولقد لاحظ المتابعون أن الظهراني ظل معتكفاً حتى اللحظات الاخيرة قبل إغلاق أبواب الترشيح ليخرج من اعتكافه وليعلن ترشحه للانتخابات. أشار الظهراني في الوقت نفسه إلى أنه قد ‘’يرفض منصب الرئاسة’’ مؤكداً على إنه يريد ‘’خدمة الناس، ومنصب الرئاسة يبعد النائب عن خدمة الناس، ويكون الرئيس متفرغا لمطرقته فقط’’.[1] و أشارت تقارير صحفية إلى اعتكاف الظهراني وإعلان عزوفه عن الترشيح سهّلا وصول التطمينات الضرورية وضمان الفوز بأصوات الناخبين في دائرته الانتخابية وإعادة استلام رئاسة المجلس النيابي. ا
بعد ذلك بسنة وفي الشهر الفضيل أيضاً، تفاجأ كثيرون بتصريحات النائب علي سلمان وحديثه عن ندمه على ترشحه في انتخابات العام الماضي مؤكداً إنه لم يكن شخصياً راغباً في ذلك إلا قراراً أُتخذ بترشيحه رغم أنه لم يكن مرتاحاً لذلك. في سياق التصريح نفسه أعلن رئيس الكتلة الإيمانية إن ‘’قرار انسحابه ليس مستبعداً، ويمكن أن يعلنه في أية لحظة..’’. واتضح لاحقاً أن التصريح لم يكن موجهاً لجهة بعينها بل هي رسالة موجهة إلى ثلاثة أطراف: ‘’الحكومة لعدم تجاوبها’’ و’’القوى السياسية لعدم تعاونها’’ و’’بعض القطاعات الشعبية’’.[2]ا
أخذ كثيرون على محمل الجد التهديد بإعلان ‘’خيار الانسحاب’’. صحيح أن المجلس النيابي يستطيع ممارسة مهماته بشكل اعتيادي رغم استقالة عضو أو أكثر من أعضائه. وحتى في حالة استقالة كتلة الوفاق جميعها فإن الانتخابات التكميلية ستأتي ببدائل تمثيلية أو تعيد النواب المستقيلين. إلا أن الاستقالة، مفردة أو جماعية، ستشكل هزَّة للتجربة البرلمانية وستفقدها مصداقيتها لدى أطراف خارجية عدة.ا
أشاطر رأي المشككين في قدرة النائب على سلمان والكتلة الوفاق النيابية على اتخاذ قرار خطير مثل الانسحاب من مجلس النواب. فكيف يستطيع الاستقالة من لم يستطع أن يرفض قرار ترشيحه رغم أنه لم يكن مرتاحاً لذلك القرار. علاوة على أن الاستقالة، فردية أو جماعية، قد تنسف الترتيبات القائمة بما فيها المقايضة التي أدت إلى تخلي الوفاق والأطراف الرديفة لها عن نهج المقاطعة. لقد تعوّدنا خلال السنوات الماضية على عبثية مزدوجة تتمثل في كثرة التهديدات وفي سرعة تناسيها.
ولهذا لا أظن أن أحداً في الحكم أو في المعارضة أو في البيْن البيْن يخشى أو يتوقع أو يأمل أن ينسحب الشيخ علي من المجلس. بل يستطيع المتابعون إضافة التهديد الأخير إلى قائمة تحوي تهديدات معلقة حتى الآن والتي أطلقها الشيخ سلمان عندما كان مقاطعاً أو التي أطلقها بعد فك ارتباطه بالمعارضة ومشاركته ‘’مرغماً’’ في المجلس النيابي. ومعلومٌ أن هذه القائمة تبدأ بالإعلان الصادر في 20/7/2002 عن جمعية الوفاق ‘’انها ستتدارس اتخاذ قرار بإغلاق الجمعية نهائيا وحل إدارتها ولجانها’’ إذا ما أقر مجلس الشورى مشروع قانون الجمعيات السياسية.[3] ومعلومٌ أيضاً إنه لم يتبقَ من آثار تلك التصريحات والضجيج المرافق لها سوى قوائم ‘’سَجِّل ثم سَجِّل’’. وكفى الله المؤمنين شر المواجهات.ا
قلتُ إن فاعلية ‘’الشانتاج’’ تتأثر بميزان القوة بين الأطراف المعنية إلا أن ثمة عوامل إضافية تستطيع تحييد أثر ميزان القوة في إنجاح التهديد أو إفشاله. ومن بين هذه العوامل تبرز أهمية التوقيت. فلا فائدة من تهديد مبكر أو تهديد فات أوانه. ولعل في التوقيت الذي اختاره المرشح الظهراني حين اعتكف يكمن بعض تفسير نجاحه في تحقيق أهدافه. فعلى رغم ميزان القوة الذي لم يكن يميل لصالحه إلا أن الظهراني تمكن من تحييده بذكاء واستطاع عبر استخدام ‘’الشانتاج’’ أن يصل إلى المجلس النيابي وإلى سدة رئاسته.ا
أحد العوامل اللازمة لنجاح ‘’الشانتاج’’ يكمن في اقتناع الأطراف الأخرى بأنك صاحب القرار. وكذلك في اقتناعها بأنها لن تستطيع الاتفاق عليْك وفوق رأسك مع من يعتبرونك واجهةً له أو سيفاً من جملة سيوفٍ يَضربُ بها. وبطبيعة الحال لا بد للأطراف الأخرى أن تكون مقتنعة أيضاً بقدرتك على وضع تهديدك موضع التنفيذ. فمن دون هذه المصداقية لن يكون تهديدك بالثبور وعظائم الأمور أكثر فاعلية من تهديد الفرزدق حياة مَرْبَع. وأخيراً فإن التهديد لن يحقق أياً من أهدافك حين تكون الأطراف المعنية مُتيَّقنة من أن هذا هو أعلى خيْلك وإنك لا تملك أن تفعل شيئاً آخر تهدد به مصالحهم.ا
بدل توجيه الرسائل إلى ‘’الحكومة لعدم تجاوبها’’ و’’القوى السياسية لعدم تعاونها’’ و’’بعض القطاعات الشعبية’’ اللحوحة وبدل التهديد بالانسحاب من المجلس قد يحتاج الشيخ علي سلمان إلى ‘’تايم آوت’’. وقتٌ يستفيد منه لممارسة النقد الذاتي ومراجعة ممارساته منذ أن أصبح في واجهة العمل السياسي في .2002 فلعله يرى بعد ذلك أن من غير المفيد رفع السقف عالياً عبر التهديدات في وقتٍ يعرف الجميع كم هو منخفض السقف السياسي الذي تفرضه الترتيبات التي أدت بجمعية الوفاق إلى التخلي عن المقاطعة والمشاركة في البرلمان
.
.
No comments:
Post a Comment