Blog Archive

Tuesday, March 04, 2008

هُوشَة مجلس النواب

.



الهُوشَة التي شهدها مجلس النواب في الأسبوع الماضي ما هي إلا أحد الأعراض الدورية لإحتقانٍ سياسي مزمن تعاني منه بلادنا. إلا أن ما حدث هذه المرة حدث بسرعة فاقت ما كان يتوقعه أكثر المتابعين تشاؤما

.

أشار أحدُ الأصحاب ممن لهم قدرة أكبر على تحليل معطيات الوضع الداخلي إلى عدد من العوامل التي أدت بمفردها أو بتراكمها إلى ما تشهده البلاد هذه الأيام. إلا أنني لم أوافقه. فما تشهده البلاد هذه الأيام ليس نتيجة سوء تقدير نواب الوفاق لصلاحيات مجلس النواب المحدودة وليس بسبب تعدد مرجعياتهم السياسية. كما أنه ليس بسبب سوء تقدير خليفة الظهراني لقدراته القيادية و فشله في التوصل إلى حلٍ وسط يحفظ ماء وجه الأطراف المعنية وينأى بمنصبه بعيداً عن التجاذبات اليومية. أقول أن التفسيريْن معقولان ولكن علينا أن نبحث عما وراءهما أيضاً. أي علينا أن نبحث عن العلِّة التي أدت إلى هُوشة الثلثاء الماضي و التي أدت قبل ذلك إلى مواجهات شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي و قد تؤدي , إن لم نتدارك الأمر, إلى أحداث أكثر تعقيداً و إلى إحتقانات أشد

.


العلة , كما أراها, تكمن في إستنزاف رأسمالنا الإجتماعي وتبديده في مناوشات دورية تتبعها تسويات دورية بين أطراف لا تعتبر بناء الوطن الجامع والدولة الدستورية الحديثة ضرورة ملحة. بل هي ترى أن مصالحها تتأمن عبر المقايضات و التسويات التي تتم خارج إطار مؤسسات الدولة. فعلى عكس صاحبي الخبير بدواخل الشأن الداخلي أرى إن هوشة يوم الثلثاء الأخيرة هي واحدة من جملة نتائج تبديد رأسمالنا الاجتماعي وهدره في تسويات سياسية على مستوى القبيلة أو الطائفة بدلاً من تسويات تشمل الوطن كله. وإذا كانت تلك التسويات الفئوية ترضي المستفيدين منها وتكرِّسهم رموزاً وقادة في أحيائهم وقراهم أو طائفتهم و قبيلتهم فإنها تشكل خسارة للوطن كفكرة وكمشروع. فحين يؤسس أحدُنا للقبيلة فإنه لا يرى أكثر منها وحين يؤسس أحدُنا الآخر للطائفة فأنه لا يرى أكثر منها. وبالتأكيد لن يرى أيٌ منهما الوطنَ الذي يتحدث عنه الحالمون. ولا يتوقف الأمر هنا , فحين نتعامى عن كيف يتم تبديد ثرواتنا الإجتماعية في الوقت الذي يتفاهم الطائفيُ والقبليُ على أن يسود هذا في طائفته و ذاك في قبيلته فإننا نخسر أيضاً أملنا في وطنٍ يجمع الناس ويحظي بولائهم

.


مثلما أن للمجتمعات والأوطان رأسمال مادي يتمثل في ثرواتها الطبيعية والبشرية وأساليب تنميتها، فأن للمجتمعات والأوطان رأسمال آخر يتمثل في ثرواتها الإجتماعية, أي في تلك الدرجة من التماسك بين مكوناتها و في ذلك الكم من الشبكات الاجتماعية التي تربط الأفراد والجماعات ببعضهم البعض، وفي منظومة أنماط السلوك المتعارف عليها ، وفي الآليات المتعارف عليها لمعالجة المشاكل الطارئة ولتسوية النزاعات التي قد تنشب. كما يتمثل رأس المال الاجتماعي أيضا في الخبرات المتراكمة عبر الأجيال وما يتولد من اطمئنان للآخرين وبأنهم سيقومون بالأدوار المناطة بهم كما هو متوقع وبأن أحداً لن يغدر بالآخرين آو يتجاوز حدود دوره بدون مراعاة للأصول التي تم التوافق عليها. وينطبق هذا التوقع على الأفراد كما ينطبق على المجموعات أو السلطات الدينية أو السياسية أو الإقتصادية

.

بطبيعة الحال لايمكن بسهولة إحتساب رأس المال الاجتماعي رغم أننا نعيش آثاره في كل لحظة نتفاعل فيها مع الناس. نعرف من خلال هذا التفاعل أهمية رأس المال الاجتماعي ونرى كيف ينمو أو يتقلص عبر أنشطة الناس اليومية في الأحياء وأماكن العمل , في مآتم الفرجان ومساجدها ، وفي النوادي والمجالس والمقاهي وغيرها من مجالات التواصل الاجتماعي المنتظم . فكلما ازداد إنخراط الناس في هذه الأنشطة كلما تكاثرت إمكانيات تنمية رأسمالها. و تتضح هنا أهمية توطيد التواصل بين الناس فعن طريق ذلك يراكمون الخبرات المشتركة ويصوغون القواسم المشتركة التي لا تلغي فردية أيٍ منهم ولكنها تخلق جسداً اجتماعياً اسمه الجمعية أو الجماعة أو "الفريج" أو الوطن

.

معلومٌ أنه يمكن تبديد الثروات المادية عن طريق الاستثمارات الخاطئة آو غير المدروسة وعن طريق التقديرات غير الدقيقة لمردود مشروع استثماري ما ، أو عن طريق مشاريع البهرجة التي لا مردود لها، أو بسبب الفساد والنهب أو سوء الإدارة أوالسَفَه. كذلك يمكن تبديد الثروات الاجتماعية. ومثلما يمكن تنمية رأس المال المادي للأوطان والمجتمعات بالاستثمار الجيد وبالإدارة الحكيمة, كذلك يمكن تنمية رأس المال الاجتماعي للأوطان والمجتمعات بإجراءات حكيمة مماثلة

.

ولكن ثمة فرق لابد من توضيحه. فنحن نعرف عندما نفقدُ ديناراً أو ألفاً أو حين ينهار المنزل أو تتهشم السيارة أو حين نفقد شيئاً آخر من ممتلكاتنا المنقولة وغير المنقولة. ونحن نعرف القيمة المادية لكل ما يضيع منا أو ما نُضيعه. ونعرف كيف نعوض ما يضيع منا ببديل كما أننا نعرف كلفة ذلك البديل. ولكننا لا نعرف قيمة ما نخسره من ثروتنا الإجتماعية حين لا نتواصل إلا سباباً أو عراكاً أو لمزاً وغمزاً. و لا نعرف قيمة ما نخسره حين نعتبر "الآخرين" أقل منا شرفاً أو ديناً أو حقاً في الوطن فلا نتعاطى معهم بل لا نتزاور معهم ولا نشاركهم أحزانهم وأفراحهم. فكما لا يستطيع أحدٌ أن يحدد قيمة ما نكسبه من تعميق التواصل بيننا فلا يستطيع أحدٌ أن يحسب مسبقاً ما نخسره من رأسمالنا بسبب العزلة القائمة بين الناس أو بسبب زرع الريبة والخوف المتبادل بينهم. ما نعرفه يقيناً أن لعدم التواصل كلفة وللعزلة كلفة و للسباب المتبادل كلفة. و لكننا نعرف يقيناً إنها أكلافٌ ندفعها نحن الذين ليس لهم لا ناقة قبلية ولا جمل طائفي

.

أختم الآن بتكرار ما سبق لي نشره في هذه الصفحة تعليقاً على أزمة مشابهة. فحين نستعرض تفاصيل ما تشهده البلاد هذه الأيام لا يشعر أيٌ منا بالتفاؤل. ولكننا لسنا أمام قدر محتوم ولا مفر منه. فليس محتوماً أن تظل البلاد لسنوات أخرى رهينة تجاذبات تفتيتية تستنزف طاقاتنا وتوصلنا مرة أخرى إلى عنق الزجاجة. فمازالت الإمكانات متوافرة للخروج من الدوامة التي ندور فيها تتقاذفنا الأزمات الصغيرة الواحدة تلو الأخرى وتستنزف الوطن وأهله وتمنع بناء الدولة الدستورية التي حلمنا بها جيلٌ بعد جيل, دولة يتساوى الناس فيها بغض النظر عن هوياتهم الطائفية أو القبلية

.

.


.

.

No comments: