Blog Archive

Tuesday, April 28, 2009

الإفراط في السُلْطة

.
.
مثل كثيرين سرّني الحكم الذي اصدرته المحكمة الجنائية الكبرى في الأسبوع الماضي بتبرئة كلٍ من رئيس جمعية التمريض رولا الصفار وأمين سر الجمعية إبراهيم الدمستاني. إلا أن مشاعر السرور شابتها حسرة على تلك الطاقات التي أهدرتها ا النيابة العامة منذ أن إستدعت "المتهميْن" إلى غرف التحقيق ثم قاعة المحكمة. فلقد كان جديراً بالنيابة العامة أن تقرر عدم رفع القضية حين تبين لها أن المستند الرئيس فيها هو تقارير صحفية تلخص ما قيل في مؤتمر صحفي. وحسب تلك التقارير فلقد أشار مشاركون في ذلك المؤتمر إلى مظاهر فساد وسوء إدارة في بعض أقسام وزارة الصحة. وبعد تسعة أشهر وعدة جلسات تحقيق و ومحاكمة ومداولة عرفنا أن المحكمة "لم تطمئن إلى صدور عبارات السب الواردة في صحيفتين محليتين عن أي من المتهميْن". ا
.
ربما رأى بعضنا في الحكم إنتصاراً للحس السليم وإحقاقاً للعدل. وربما تساءل بعضنا الآخر لمَ لمْ ترَ النيابة العامة ما رآه الناس حتى بدون معرفة معمقة بنصوص القوانين وإجراءات المحاكم؟ لا أشك في معرفة القانونيين في النيابة العامة بهشاشة القضية. ولكن النيابة العامة ليست هي السلطة بل هي إحدى الأدوات القانونية في أيدي السلطة. ولأصحاب السلطة أسبابهم التي لا نعرفها. فهم يروْن ما لا نرى مثلما نرى ما لا يروْن. لهذا أفترضُ أن في محنة الصفار والدمستاني ما هو أبعد من مجرد سوء تقدير موظف في النيابة العامة. فهي محنة تنسجم مع سياق عدد من الإجراءات التي أفرزها ومازال يفرزها التجاذب المستمر منذ أن إختلت الأسس التي بُني عليها الإجماع في التصويت على ميثاق العمل الوطني. وهي إجراءات يمكن تصنيفها تحت عنوان عريض هو "الإفراط في ممارسة السلطة". فمثلما هناك من يتعسف في تطبيق القانون, ثمة من يُفْرِط في ممارسة السلطة
.
لتوضيح المقصود أستعرتُ عنوان هذه الملاحظات من عنوان أحد فصول كتاب "المقاومة بالحيلة" لجيمس سكوت. وهو كتابٌ متداول يناقش كيف تتداخل أساليب ممارسة السلطة بأساليب مقاومتها. وتصل آثار هذا التداخل الذي ناقشته بشئ من التفصيل في كتابي "المقاومة المدنية" إلى ذروتها حين يتمكن أحد الطرفيْن , السلطة أو المعارضة, من تحويل عوامل قوة الطرف الآخر إلى عوامل ضعف. وفي العادة فأن السلطة هي الطرف الذي يمتلك القدرة على المناورة كما تمتلك الأدوات الأخرى اللازمة لمواجهة معارضيها. وتشمل قدرتها على المناورة تقديم تنازلات شكلية أو هامشية لا تغير ميزان القوى ولكنها تخلق بلبلة في صفوف المعارضة. ومهما كانت طبيعة التنازلات فهي تأتي في صياغات تجتذب بعض قيادات المعارضة أو قواعدها الإجتماعية بإتجاه التراجع أو الوقوف على الحياد أو الإنضواء تحت لواء السلطة
.
من الجانب الأخر لا يمكن للدارس أن يستهين بما هو متوفر في هذا المجال للمعارضة العقلانية. فهي تستطيع, سواء أكانت سلمية أو عنفية, أن تعمل على تحويل عوامل القوة لدى السلطة إلى عوامل ضعف. ولقد قدمت المقاومة الفلسطينية أحد أبرز الأمثلة عليها إبان الأنتفاضة الأولى قبل أكثر من عشرين سنة. فرغم عدم توازن القوى بينها وبين العدو الإسرائيل إستطاعت المقاومة الفلسطينية أن تجعل من جبروت العدو عبئاً عليه. ورأى العالمُ في فلسطين أطفالاً لا يملكون سلاحاً سوى الحجارة و إطارات العجلات يواجهون القوة العسكرية الأقوى في المنطقة برمتها. وحين أفرطت سلطة الإحتلال الإسرائيلي في إستخدام قوتها ضد المدنيين تحوَّل جبروت إسرائيل العسكري إلى عبءٍ سياسي وإعلامي وأخلاقي على الصعيديْن المحلي والدولي
.
وفي المجال السياسي العام ثمة أمثلة أخرى كثيرة على سهولة السقوط أمام إغراء الإفراط في ممارسة السلطة. ولهذا تخضع الحكومات في الدول الديمقراطية إلى عددٍ من المستويات الرقابية لمنعها من السقوط أمام الإغراء. وتشمل هذه المستويات الرقابية برلمان كامل الصلاحية قادرٌعلى القيام بدوريه التشريعي والرقابي علاوة على إعلام مستقل وقوانين تضمن حرية التعبير وتجرم الملاحقات الكيْدية. كما تتطلب وجود مؤسسات مجتمع مدني غير خاضعة لتقلبات المزاج الحكومي
.
أقول, كلما تعددت المستويات الرقابية في الدولة كلما تكرست الديمقراطية وضعفت إغراءات الإفراط في ممارسة السلطة. أما حين تنعدم هذه المستويات الرقابية أو حين تضعف فإن الإفراط في ممارسة السلطة سيقود أي بلد إلى الويلات. بل وسيقود إلى زوال السلطة نفسهأ كما رأينا في بلدان كثيرة كانت خاضعة لأنظمة حكم أوتوقراطية. ولا ينحصر الأمر على دول العالم الثالث. فلقد عانى العالمُ برمته وما زال يعاني من عواقب إضعاف مستويات الرقابة منذ التسعينيات في الولايات المتحدة وبريطانيا. فالمآسي التي شهدتها سجون باغرام وغوانتانامو و أبي غريب إضافة للمعتقلات السرية في مختلف أرجاء العالم هي وليدة إفراط كلٍ من بوش وبلير في ممارسة سلطاتهما بحجة "الحرب على الإرهاب". وهي مآسٍ وجرائم جعلت الولايات المتحدة وبريطانيا تتصدران قائمة أسوأ الدول إنتهاكاً لحقوق الإنسان. وجعلت كثيرون يطالبون بمحاكمة الرجليْن لجرائم إرتكباها ضد الإنسانية
.
أسارع إلى القول أن أمثلة الإفراط في ممارسة السلطة لا تنحصر في المجالات السياسية وحدها. فالإفراط في ممارسة السلطة هو منزلق يواجه أصحاب السلطة سواء أكانت سياسية أو دينية أو غيرهما. ولا تختلف عواقب الإفراط في ممارسة السلطة سواء أكان مجالها ضمن أسرة أو صف مدرسي أو في إطار دولة. ففي هذه كلها يواجه أصحاب السلطة خطر الإفراط في ممارستها. وتؤكد الخبرة المتراكمة أن إفراطهم سيولد إحتجاجات و سيقود عاجلاً أم آجلاً إلى فقدانهم حتى لقدرتهم على ممارسة سلطاتهم بإعتدال. أقول لا تنحصر مخاطر الإفراط في ممارسة السلطة في المجال السياسي وممارسة الحكم. فعلى سبيل المثال نرى في المثل الشعبي, بصياغاته المختلفة, "إذا كبر إبنك خاويه", ملامح التحذير من منزلق الإفراط في السلطة الوالدية. فلا يمكن أن يتجاوز الأبُ أو الأمُ الحدود المعقولة لسلطتهما بإهانة أولادهم وبناتهم أوالتشدد في الأوامر أوالتعسف في الأحكام. فعاجلاً أو آجلاً سيتمرد الأولاد والبنات على سلطة والديْهم. وسواء جاءت مظاهر التمرد سراً أو علانية فإن الوالديْن سيفقدان قدرتهما على ممارسة دورهما. وربما تفاقمت الأحوال لتصل إلى تفكيك العائلة التي تخيل الوالدان إنهما سيحافظان عليها حين أفرطا في ممارسة سلطاتهما
:
المقال ----------------
منشور في الوقت بتاريخ 28 أبريل 2009
.....
.
.

No comments: