Blog Archive

Friday, August 20, 2010

مقالٌ قديم وموضوعٌ راهن


التغرير والتحريض


تغيّرت أمورٌ كثيرة في البحرين منذ الخمسينات. وتغيرت تسميات الأجهزة الموكولة بحفظ الأمن فيها كما تغيرت جنسيات المسؤولين فيها وتغيّرت لغة خطابهم الإعلامي. إلا أن متابعة البيانات الأمنية منذ الخمسينات تشير إلى أمريْن لم يتغيرا. أولهما هو الإصرار على تفسير الاحتجاجات بالإشارة إلى المحرضين الداخليين أو الخارجيين . وثانيهما هو تكرار توصيف المحتجين بـ ''المُغرّر بهم''. ويلاحظ المتابعُ أن الإعلام الرسمي لا يَمل مِن نشر هذه البيانات في صياغات ناعمة أو شرسة حسب مقتضى الحال. فالأوضاع، حسب بعض الإعلاميين، هيَ تَمَام التَمَام لوْلا التغرير والتحريض
يتفق دارسو الحركات الجماهيرية على أن الأجهزة الأمنية تلعب دون أن تدري دوراً مهماً في مجال التحريض على الاحتجاج. وهو دورٌ يفوق أحياناً دورَ حركات المعارضة وناشطيها. بل وتؤكد الدراسات المقارنة أن بعض الإجراءات الأمنية هي أكثر تأليباً من عشرات البيانات السياسية. ولهذا يعتمد عددٌ من تكتيكات المقاومة المدنية على تفعيل دور أجهزة الأمن في تأجيج الغضب بين العموم وتسهيل تجنيد النشطاء والمتعاطفين مع مطالب المعارضة.
حين تشّنّ أجهزة الأمن حملاتها التأديبية الجماعية وتحاصر ''مناطق الاشتباكات'' فهي لا تفرق بين النشطاء والمتعاطفين وبين مَن لا ناقة لهم في الأمر ولا جمل. وحين تستهدف قنبلة غازيّةٌ طائشة مَسْكناً وتصيب طفلاً فإنها تؤكد إدعاءات المعارضين أن السلطة لا تعاقب النشطاء وحدهم بل هي تستهدف كل الناس، وأنها غير معنية حتى بحماية الأطفال من غضبها. وحين تصيب آثار القنابل الغازيّة مواطنين يشاركون في مراسم دفن عزيزٍ فقدوه، تتأكد مزاعم المعارضين حول عشوائية العقاب الجماعي وأن المواطنَ متهمٌ في ولائه مهما فعل، وأنه سيُعاقب حتى لو كان عابر سبيل.
تلعبُ أجهزة الأمن دورها في التحريض ضد النظام حين تكتفي بالتعاطي الأمني مع الاحتجاجات وحين ترفض التعاطي السياسي والحقوقي مع ما يعتبره المعارضون مظالم يتعرضون لها أو انتقاصات لحقوقهم كمواطنين في دولة حديثة. وفي هذا لا تشّذ البحرين عن مثيلاتها في العالم الثالث التي يتجاهل خطابها الرسمي العوامل البنيوية التي تسهِّل عمل ''المحرضين' . فالمواطن الصالح حسب الخطاب الرسمي هو القانعُ الصامتُ الصابرُ الذي يواجه الظلمَ بالحوْقلة. أما المواطن الذي يخرج إلى الشارع مطالباً بحقوقه فهو حاقدٌ أو "مُغررٌ به". ا.
معلومٌ أن الغضب يكون حيث يكون الإحساس بالظلم وحيث يكون الإحباط. وتتولد الرغبة في الاحتجاج حين يتزامن ثالوث المظلومية والإحباط والغضب. إلا أن المسافة كبيرة بين الرغبة في الاحتجاج وبين فِعْل الاحتجاج. وفي هذه الملاحظة البديهية تكمن إحدى مصادر تعقيد العمل الجماهيري. فمن خلال ما هو متوافر من دراسات حديثة في حقل الحركات الاجتماعية نعرف أن الناس لا يحتجون كُلّما ظُلموا أو أحبطوا أو غَضبوا. وفوق ذلك فهُم ليسوا مجرد غوغاء لا عقل لها ولا إرادة. أو مجرد كتل بشرية يحركها ''المحرضون'' الداخليون والخارجيون كيفما شاؤوا ومتى ما شاؤوا.
لا تتحول الرغبة في الاحتجاج إلى فعلٍ احتجاجي إلا في حالات قليلة. فجزءٌ من الرغبة في الاحتجاج يختفي حين يتعلق بعض الناس بعباءات رجال دين يحذرونهم من عواقب الخروج على وليِّ الأمر أو يدعونهم إلى الصبر ويَعِدونهم بالأجر العظيم في الآخرة. وجزءٌ آخر تمتصه جهود نخب سياسية تَعِدُ الناس بمستقبل زاهر تحت قيادتها ولكنها تطالبهم بطول البال بينما هي تساوم السلطة على الشكليات والفُتات بل وتدخل معها في صفقات و مُقايضات. وجزءٌ ثالث يختفي عبر الهروب من الواقع فيُغرق بعضنا همومه الشخصية والعامة في الدَرْوَشة أو الإدمان وغيرهما من أشكال الهروب من الواقع. وتشمل أشكال الهروب من الواقع انتظار ما ستأتي به بطاقة يانصيب، أو أن يتحقق أمرٌ نَذَرْنا من أجله نذراً لصاحِب ضريح، أو أن تصل رسالة استرحام أرسلها مظلومٌ قبل سنوات إلى مسؤول متنفذ. ويمتص ما تبقى من رغبة في الاحتجاج خوفُ الناس على أرزاقهم وأرزاق أقاربهم وخوفهم من ملاحقات قد يتعرضون لها.
حين تتضافر كل هذه العوامل تعِمّ البلادَ فترة هدوء تتخيله أجهزة الأمن من صنعها. إلا أن الهدوء كما قلتُ لا يعني أن الناس راضية بما فُرضَ عليها أو قانعة بما تحصل عليه من فُتات. فجَمْرُ المظلومية والإحباط والغضب باقٍ تحت الرماد ينتظر ظرفاً ملائماً كي يشتعل.
لا يتطابق هذا السرد مع ما يتصوره بعض الناشطين السياسيين حين يطرحون برامج أو حين يُعدّون أجندات عملهم الجماهيري. فالمتفائلون والسذج من بين هؤلاء يتصورون أن الناس طاقة ثورية لا تنضب ولكنها طاقة معطلة تنتظر من يحرّكها ويقودها. كما لا يتطابق هذا السرد مع ما يتصوره بعض المسؤولين الأمنيين الذين لا ينظرون إلى الناس إلا كمصدر لخطرٍ مُحتمَل أو داهِم أو قائِم.
حين نتمعن في تاريخنا السياسي الحديث نلاحظ أن الاحتجاجات الجماهيرية اتخذت شكل انتفاضات أو هبّات دورية يفصل بين الواحدة والأخرى فترة هدوء تقل عن عشر سنوات. ومعلومٌ أن السنوات 1954 و1965 و1972 و1979 و1986 و1994 و2007 هي علامات على الطريق يؤرخ كلٌ منها لإحدى ''الرَدْحَات'' الدورية حسب تعبير أخينا جاسم مراد. إلا أن كلاً منها تؤرخ أيضاً لانعطافات تغييرية في تاريخنا السياسي
.
في كل ''انتفاضة'' تلجأ أجهزة الأمن إلى حزمة الإجراءات المعتادة لتأديب ''المغرر بهم'' بما فيها اعتقال عددٍ مناسب من ''المُحَّرِضين''. وحين تنجح الأجهزة الأمنية في إخماد الاحتجاجات بعد فترة قد تطول أو تقصر تهنئ الأجهزة الأمنية نفسها. وقد يحصل الجنود على تعويضات عن العمل الإضافي وقد يحصل القادة على ترقيات وأوسمة.
إلا أن من يتابع تاريخنا الحديث لا تفوته ملاحظة أن ما يتحقق من هدوء ظاهري هو خداعٌ للنفس. بل هو، في أحسن الأحوال، إنجازٌ مؤقت طالما لم يتم التعاطي مع العوامل البنيوية التي تسبب ما نشهده من احتجاجات دورية. فلا يتخيل حصيفٌ أن هذه العوامل تزول حين يعمّ الهدوء. بل أتجرأ على القول إنهم في كل مرة تتسرع فيها الأجهزة، وأصداؤها الإعلامية، بإعلان الانتصار على الغوغاء والمغرر بهم وعلى المحرضين فإنها تسهم، دون أن تدري، في التحريض على ''انتفاضة'' أخرى ستُصيب البلاد عاجلاً أو آجلاً
.






مقال منشور في الوقت بتاريخ 1/1/2008



ز

No comments: