Blog Archive

Wednesday, September 27, 2006

مــــــوت نخـلــــــــة

.
مثل الكثيرين عرفتُ عن ليلى فخرو قبل أن أتعرف عليها. فحين تعرفتُ عليها كان قد سبقها صيتُها الذي صنعته بنضالها
المتفاني والذي قد تكرس في أذهاننا جميعاً. كيف تتحدث عن رمزٍ لا تريد أن تكون رمزاً؟ كيف تتواصل مع من تظنها امرأة فوق العادة وهي تحسبُ نفسها امرأة عادية لم تقم بأكثر مما يحقق إنسانيتها؟ تحسـبُها أكثر مما تحسبُ هي نفسها فتتحرج في البداية حتى تتثبتَ إن الأمر ليس تواضعاً مفتعلاً فتبدأ في التعامل مع ليلى كما هي في حقيقتها، إمرأة من هذه الأرض الولود ونتاج فترة غنية من تاريخ تطور مجتمعنا ونموذج للبشر الذين حاولوا أن يؤثروا في مسيرة ذلك التطور. عندها تتعود على قبول التعاطي مع ليلى لا كامرأة خارقة ولكن كامرأة من الناس اختارت النضال الوطني الديمقراطي طريقاً . ا
.
حين قرأتُ خبر وفاة ليلى قلتُ ماتت نخلة أخرى من تلك النخيل التي نمت في تربة البحرين وسـقتها ‘’السيبان’’ التي حفرتها سواعد الرجال والنساء ممن التفوا حول هيئة الاتحاد الوطني في بداية الخمسينات. لقد حفرَ ذلك الجيل من القادة في أرضٍ بدت وقتها صلدة مليئة بصخرٍ قاسٍ، إلا أن إصرارهم وعزيمة الشعب اخترقتا هشاشة السطح الصخري لتشقُّ السيبان في كل ناحية من البلاد كي يتدفق فيها ومن خلالها مياهٌ تنبع في عيون القرى السنية والشيعية ولتقول للناس ‘’إننا نريد وطناً لكل الناس’’، وطنٌ كالماء لا لون له ولا طائفة. فصار النخلُ ينمو بسرعة أكبر وصار يدر خيرات أكثر. بل لقد وصل خير نخيلنا بعد أن نما واشتد عوده، إلى الجيران والأهل البعيدين. ا
.
وليلى هي واحدة من نخيلنا ذوات الخير التي أمدت الجيران والأهل برطبها وبسعفها أو كَرَبِها. وليس في هذا غرابة، فهي مثل بقية جيلها الذين تفتحت أعينهم في الأرض التي مهّدها الباكر والشملان والعليوات وبقية قادة حركتنا الوطنية في الخمسينات، لم يمكن لها أن تتخيل البحرين معزولة عن محيطها الخليجي والعربي والأممي. فنحن كنا ومازلنا جزءا من عالم يموج بالأفكار والحركات التي لا تترك أحداً مهما كان موقعه في الهرم الاجتماعي إلا وتؤثر فيه.ا
.
جيل ليلى الذي تصدى لحمل أعباء النضال الوطني بعد أن قمع جيل الهيئة هو أيضاً ذلك الجيل الذي واجه محاولات النظام لقمع استمرار حركة المعارضة ولمنع نموها. ويشـهد تاريخ البحرين طيلة الخمسين عاماً الماضية، سـواء في عهد الحماية البريطانية أو بعد الاسـتقلال، على ما تعرض لها هذا الجيل من المناضلين تخويفاً أو ردعاً أو عقاباا
.
ً.فكما عمَّ خيرُ الهيئة عمَّت شرور القمع. فسـقط شـهداءٌ من كل الطوائف ومن كل الفئات، ومن كل الأعمار ومن كل المناطق. وسُـجن الآلاف وتعرض أكثرهم للتعذيب ولم يفرِّق الجلاد ولا الموت بين شيعي وسني أو عجمي أو عربي أو بين قروي ومنامي ومحرقي. واحتضنت المنافي الجميع من دون تفريق. وهناك، كما في السجن، تتاح لكلٍ منا فرصة إعادة اكتشاف ذاته وفرصة تمحيص خياراته ومواقفه. بعضنا لم يستمر وبعضنا، مثل ليلى، زاد عزيمة وإصراراً. ا
.
ليلى، مثل بقية نخبة من جيلها، اكتشفت مبكراً أن أحداً، امرأة أم رجلاً، لا يحتاج الى قدرات غير اعتيادية جسدية أو ذهنية كي يكون مؤثراً في محيطه. ما نحتاجه هو إرادة الفعل والمثابرة وعزة النفس. وكلُ هذه تنبع من ذواتنا وبإرادتنا. لا تنكسر عين من لا يريد أن تنكسر عينه ولا يُهانَ من لا يرتضي لنفسه المهانة.ا
.
وهي اكتشفت مبكراً أنك لا تحتاج لاستجداء رضا المتنفذين، على اختلاف درجاتهم، لكي تقوم بدورك أو أن تستمر فيه. ليلى اكتشفت مبكراً أنها لا تحتاج لتزكية شيخ قبيلة أو طائفة أو صاحب سلطان مادي أو سياسي لتأخذ مكانها في مقدمة صفوف العاملين من أجل صنع مستقبلٍ أفضل تسوده علاقات تليق ببشر متساويين. لهذا أصبحت ليلى بالفعل رمزاً يُشار إليه بمحبة وباحترام. فبالنسبة الى كثيرين منا ممن عرفوها أو سمعوا عنها كان اسمها أحدُ الأسماء البحرينية التي نفاخر بها حين يتحدث الناس عن الدور الذي تلعبه المرأة في نضال بلداننا من أجل الاستقلال والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ا سم من بين أسماء نساء حفرن أسماءهن دماً وعرقاً ودموعاً في تاريخ أوطانهم ليصبحن رموزاً لذلك التاريخ ومنائر لمستقبل سـيُبنى.ا
مات النخل و’’ إنقطْعت إعروقه’’، يقول الشاعر عبدالرحمن رفيع في قصيدة جميلة أعودُ إليها بين الحين والآخر. لحسن حظ البحرين لم يمت كل النخل ولم تتقطع كل الجذور. أعرفُ من قِبلَ، مضطراً، أن تتقطع عروقه، وأعرف من تقطَّعت عروقُه لأنه أبعدها عن الماء المتدفق من عين الوطن أو هو قرَّبها إلى مجارٍ ملوثة، ولكنني أعرفُ أيضاً من تطوّع راضياً ومختاراً فعرضَ عروقه للبيع. ا
.
إلا أن النخلة التي اسمها ليلى فخرو، حتى بعد أن ماتت جسداً، لا يمكن أن تتقطع عروقها وهي التي نمت في تربة تشّـربت من مياه تدفقت في سيبان شُـقّت في الخمسينات وتوَّلت منذ ذاك فصائل الحركة الوطنية لأكثر من خمسة عقود صيانتها وحمايتها حتى يبقى ماؤها صافياً يرتوي الجميع منه كالوطن الذي حلمت به ليلى ومازلنا نحلم به .ا
مقال منشور في صحيفة الوقت بتاريخ 26 سبتمبر 2006
.

No comments: