Blog Archive

Tuesday, October 03, 2006

خفض سقف العمل الوطني

لا يختلف كثيرون في القول بفشل الجمعيات المقاطعة. صحيح أن وجهاء هذه الجمعيات وكذلك إعلامييها مازالوا يصرون على تسويد الصفحات بكلمات تفيد بأن تراجعها عن مواقفها السابقة لا يعني فشلها في إدارة المقاطعة. بل إن بعضهم يروْن أن تغيير الموقف هو نقطة تُحتسب لتلك القيادات لأنها أي جمعيات المقاطعة، أثبتت، بمراجعتها لمواقفها، و ليس التراجع عنها، أنها تمتلك الشجاعة والقدرة على التعاطي العقلاني مع الظروف المستجدة. ا
.
من جانبٍ آخر، فإن من الصحيح القول إن عدداً من الظروف التي كانت سائدة غداة فبراير/ شباط 2002 قد تغيرت كما ان ظروفاً قد استجدت. وصحيحٌ أيضاً أنه لم يكن بإمكان أحدٍ من قادة الجمعيات المقاطعة وقتذاك استيعاب احتمال حدوثهما على رغم كثرة المؤشــرات وعلامات التحذير. ولهذا لم يشأ أحدٌ منهم أن يرفع سقف المطالب الديمقراطية أعلى مما هو متفق عليه. وهو سقفٌ أثبتت الأيام كم كان منخفضاً ، كما أثبتت انه ازداد انخفاضا يوماً بعد يوم منذ إنفض سامر ندوة السلندرات سيئة الصيت في النادي الأهلي. ولهذا رأينا كيف صارت الاستنكارات تتوالى حين يرفعُ مشاركون في مسيرة احتجاجية شعارات لا تُرضي السلطة أو حين يطالب ناشطٌ بتنحي مسؤول بل ورأينا أن البيانات الاستنكارية من إعلاميي الجمعيات المقاطعة كانت، في أحيانٍ، أسرع و أشد حدة من بيانات إعلاميي جمعيات المشاركة وحتى السلطة.ا
.
يمكن متابعة ما حدث طوال السنوات الأربع الماضية في صورة رسمٍ بياني تنازلي يوضح انخفاض سقف العملية التغييرية في البلاد وكيف تحول مضمونها من مشروع بناء دولة دستورية ذات مؤسسات دستورية يتساوى فيها الناس فعلاً و تضمن لهم حقوق المواطنة وتلزمهم بواجباتها، إلى مجرد مشروع انفتاح سياسي يتيح للمواطنين ممارسة مشروطة لبعض حقوقهم في التنظيم و حرية الرأي و التعبير، كما يتضمن منحهم حقوقاً محدودة في المشاركة السياسية عبر اختيار ممثليهم في مجلس النواب و البلديات. ففي حين بدأت قوي المقاطعة صبيحة 15 فبراير/شياط 2002 برفض التعديلات مضمونا وأسلوبا وطالبت بالاحتكام إلى ميثاق العمل الوطني باعتباره حصيلة توافق وطني، رأيناها بعد أربعة سنوات من المسيرات والإعتصامات تخفض سقف مطالبها تدريجياً ليصل ذات يوم إلى إعادة النظر في اللائحة الداخلية لمجلس النواب. كذلك رأيناها تركن جانباً مطالب الناس بمواجهة الفساد ومحاسبة المسؤولين عنه لتركز جهودها على المطالبة بوقف التصويت الإلكتروني. وكنا قبل ذلك قد رأينا بعضها يُضرب عن صلاة الجمعة جماعةً احتجاجا على إصدار قانون الجمعيات لنراه بعد أسابيع يرتب أموره و أوضاعه حسب القانون نفسه وتحت راية ناصعة البياض نسجتها فتوى ‘’التسجيل والتحدي’’. ا
ساهمت رموزٌ بارزة في جمعيات المقاطعة، و كذلك أولياؤها من وراء الحُجُب، في تخفيض سقف مطالب حركة المعارضة بحجج و دعاوى مختلفة ليس أقلها عدم إعطاء ‘’الحرس القديم’’ الفرصة للانقضاض على المشروع الإصلاحي. وحين يصل الاحتقان الشعبي إلى درجات عالية وتخرج مسيرات أو تنظم اعتصامات احتجاجا على ما تعانيه بعض فئات الشعب بسبب البطالة أو بسبب الاعتقالات غير القانونية أو بسبب التوقيف التعسفي لفترات طويلة بحجة التحقيق، كان بعض تلك الرموز تتسابق لمطالبة المحتجين بالتهدئة خشية من أن تؤدي الاحتجاجات إلى ما لا يُحمد عقباه بما في ذلك نقض ما تم الاتفاق عليه من صفقات مقايضة. ا
لا أقصد بحالٍ التقليل من أهمية ما شهدته البلاد من تغيرات في السنوات الأربع أو الخمس الماضية وخصوصا تحديث النخبة السياسية والاجتماعية فيها مما قد ينعكس مستقبلاً في إضعاف الدور السياسي لاجتماعي للتعاضديات التقليدية. إلا علينا مواجهة حقيقة إن هذا التحديث هو تحديثٌ في الوجوه وليس في المضمون. فكما رأينا في السنوات الأربع الماضية، لم يؤد استزلام بعض ذوي الباع في المعارضة، ومنهم شيوعيون وإسلاميون سابقون، إلى إعادة النظر في استراتيجية الاعتماد على التعاضديات ولكنه أدى إلى تجديد قدرة النظام على اصطناع تعاضديات حديثة الطابع وإستخدامها كأدوات لإخضاع المجتمع وإدارته. بل أكاد أقول إن سهولة هذا الاستزلام وانتشاره أسهم في إضعاف محاولات التصدي للتشطير العمودي للمجتمع علاوة على إضعاف محاولات إعادة بناء تجمعات وطنية لا تقوم على انتماء طائفي أو مناطقي أو فئوي. ا
لا أقصد الافتراء هنا و لا أوجه الإتهام لقيادات الجمعيات المقاطعة بأنها ‘’تآمرت’’ مع السلطة وقايضت عن قصد مشروع بناء الدولة الديمقراطية بما نحن فيه الآن. أعوذ بالله من هذه فرية. بل إن معرفتي بكثيرين من هذه القيادات تجعلني أتصدى لأية محاولة للتشكيك في إخلاصهم لمبادئهم. إلا ان علينا أن نواجه في هذا الصدد حقيقتيْن قد تغيِّبهما زحمةُ الأحداث و تلاحقُ المتغيرات. ا
الأولى أننا الآن أبعدُ من مشروع بناء الدولة الوطنية الديمقراطية مما كنا عليه في 1994 أو .2002 عندها لم يكن أحدٌ منا ليقبل أحاديثَ عن استحقاقات لطائفة أو منطقة أو فئة. ففي بناء الوطن، كان قائلنا يقول، يمكن ضمان حقوق الناس بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية أو المناطقية لا في التسويات بين التعاضديات أو في المقايضات غير المعلنة بين وجهاء التعاضديات والسلطة. إلا ان الانفتاح السياسي منذ أيامه الأولى أدى إلى ما عجزت عنه عقود القمع المتتالية أي تشتيت شمل الحركة الوطنية بأجنحتها المختلفة. ا
أما الحقيقة الثانية فتتمثل في اننا الآن أبعدُ من مشروع بناء الدولة مما كان عليه قادة الحركة الوطنية في الخمسينات. ولعل أكثر مؤشرات المسافة التي تبعدنا عن ذلك الجيل هو انهم قبل خمسين سنة لم يجدوا حرجاً أو صعوبة في تأسيس قائمة وطنية موحدة تضم أسماء خيَّرة محرقية/قروية/منامية/سنية/شيعية...إلخ. أما في عام 2006 فقد حرمت فتوى التمكين الناس من حقٍ اكتسبوه بدمائهم التي سالت في أقبية التعذيب التي لم تفرق بين طوائفهم ولا مناطقهم. بل و ووصل الحال بنا إلى درجة ألا تجد جمعية سياسية في حجم الوفاق إلا سنياً واحداً مؤهلأ لإلحاقه ضمن قائمتها. بل ووصل الحل بنا إلى أن تجد هي وهو في ذلك مصدراً للتباهي والمفاخرة. ا

No comments: