.
.
لستُ الوحيد الذي فوجئ بالبيان[1] الذي أصدره المكتب السياسي لجمعية المنبر التقدمي في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني .2008 ولستُ الوحيد الذي استبشر بإشارة البيان إلى ''القلق الذي ينتاب قوى عديدة في المجتمع، من ضيق السلطة التنفيذية من هامش الحريات المتاح في البلاد، مما يجعلها تلجأ إلى ترسانة التشريعات المعادية للحريات العامة والمقيدة لها، والتي صُمِمَت على مقاسات مرحلة قانون أمن الدولة البغيض''. ا
.
ومعلومٌ أن إعلان هذا الموقف الجديد تكرر في مقالٍ ذي عنوان معبر نُشر في نفس اليوم على الموقع الإلكتروني الخاص بالمنبر[2]. ولقد ندد المقالُ بشدة بما سماه ضيق صدر الحكومة ونزقها اللذيْن وصلا إلى ذروتهما بإعلان وزير الداخلية عزمه على تجريم كل من يشارك في مؤتمرات أو اجتماعات خارجية دون ترخيص مسبق. بل إن المقال يضيف أن ما أعلنه الوزير ''يعبر عن تحول خطير في سياسة الحكومة تجاه المعارضة'' وهو محاولة للَجم أصوات المعارضة باعتماد الحرب النفسية والتهديد بأدوات السلطة. ا
.
هذه لغةٌ ''تحريرية'' وليست ''منبرية''. ولهذا فرحتُ لمعرفتي بها وبالموقف الجديد الذي يعكس رأي كثيرين من أعضاء المنبر ومناصريه. ولا يلغي من قيمة المفاجأة محاولة بذلها الأمين العام للمنبر للتخفيف من وقعها على الأذن الرسمية. فبعد أقل من أسبوع من إعلان المنبر احتجاجه على ''ضيق صدر الحكومة ونزقها'' أوضح مدن في عموده أن المقصود هو صوْن الحريات المتحققة في البلاد من خلال ما سماه ''التعاطي المسؤول مع المناخ الإيجابي المتحقق في هذا المجال، واستثماره بصورة رشيدة تؤدي إلى تطوير الأداء السياسي في البلد وبناء مؤسسات المجتمع المدني، وتفعيل دورها، واستخدام الآليات التي يوفرها القانون في العمل السياسي الوطني، وهي ليست قليلة[3]''. لا بأس بالمحاولة إلا أن أبا علي يعرف أن السهْمَ قد غادر القوْس وإن على قيادة المنبر أن تفعل أكثر من هذا لإقناع السلطة بأن الأمور بينهما يمكن أن تبقى حميمة كما كانت
.
لا يستطيع سوى العارفين بتوازن القوى في صفوف المنبر تحديد ملابسات إصدار البيان الأخير بصياغته التحريرية. وعلينا أن ننتظر لنرى مدى قدرة هذا الموقف الجديد على الصمود أمام ضغط التزامات القيادة المنبرية تجاه بعض أطراف السلطة. وعلينا أن ننتظر أيضاً لنرى مدى قدرة وجهاء المنبر على التراجع عن هذا الموقف بترديد الأدعية والترانيم من شاكلة ''نصف الكأس المليان'' و ''السياسة فن الممكن'' و ''عدم حرق المراحل''. وبطبيعة الحال ثمة ما هو أسوأ من تلك الأدعية والترانيم. ومن بين عديد من النماذج السيئة أشير إلى ''دراسة قانونية[4]'' كتبها عضو المكتب السياسي في المنبر حسن علي اسماعيل في 2004 أي في أوْج اشتداد الأزمة الدستورية بغرض تسفيه أنشطة المعارضة. بدأت تلك الدراسة بإعلانه أن في حديث المعارضة عن وجود أزمة دستورية منذ 14 فبراير/ شباط 2002 ''الكثير من المبالغة وكثيراً من الغلو''. ثم ختم الكاتبُ مطالعته بتصريحٍ لأحد كبار المسؤولين يقول فيه ''إن تطوير الآليات التي يقوم عليها المشروع الإصلاحي والسياسات التي يتبناها لا زالت مفتوحة''. وعلى أساس ذلك التصريح ''الرسمي'' طالبنا عضو المكتب السياسي ورئيس اللجنة القانونية في المنبر أن نوافقه على وجود ''مؤشر واضح على استعداد الحكم للحوار حول التطوير السياسي والدستوري من خلال المؤسسة الدستورية القائمة''. ا
.
لا يجرؤ أحدٌ الآن على قول مثل ذلك الكلام. بل لم نعد نسمع أحداً يتحدث عن ''نصفِ كأسٍ مليان'' حتى من بين أشرس المدافعين عن نهج الموالاة. فلخداع الذات حدود. ولعل في هذا التطور الإيجابي بعض تفسير ردود الفعل الإيجابية تجاه البيان الأخير بين قواعد المنبر التقدمي وأنصاره وبقية المعنيين بمستقبل التيار الوطني والديمقراطي في البلاد. من جهتي استبشرتُ أيضاً بإدانة البيان لمن سماهم ''الأقلام والأصوات المأجورة''. فلي كما لغيري خبرة بهؤلاء ''الكَلَمَنْجية'' حسبما سمَّاهم الشاعر أحمد فؤاد نجم. وما أدراك ما يفعله ''الكَلَمَنْجية'' بوعي الناس.
.
قلتُ لا يستطيع سوى العارفين ببواطن الأمور تحديد ملابسات صدور البيان الأخير الصادر عن المكتب السياسي للمنبر. إلا أن بالإمكان الإشارة إلى أمريْن ربما ساهما فيما حدث. أولهما تداعيات أزمة العمل السياسي المتراكمة منذ سبع سنوات. ويعرض أخونا فاضل الحليبي الناطق الإعلامي باسم المنبر أحد هذه التداعيات في قوله إن الناس بشكل عام يشعرون ''أن هناك تراجعات مختلفة في العملية السياسية[5]''. وهي تراجعات يرى فيها خطورة على المشروع السياسي وتخلياً عن ثوابت العملية الاصلاحية التي بدأت بزخم كبير في العام 2001.ا
.
أما الأمر الثاني فهي نتائج الانتخابات في نقابة (ألبا) والتي أسفرت عن فوز القائمة التي يدعمها المنبر بجميع المقاعد. فلقد أظهرت تلك النتائج ما سماه حسن مدن بحق ''إمكانيات المجتمع المدني البحريني الحديث في أن ينتج بديلا وطنياً للخيارات المذهبية والطائفية''. وهي إمكانيات شكك فيها كثيرون بمن فيهم مناضلون تقاعدوا أو التحقوا بصفوف السلطة طمعاً في ذهبها أو يأساً من قدرة الناس. فساهموا، والأعين مفتوحة، في إضفاء ''المشروعية'' على تلك الخيارات المذهبية والطائفية عبر إسهامهم في إحباط الجهود الرامية لبناء الدولة الدستورية. فلربما كانت نتائج انتخابات نقابة (ألبا) هي الصدمة التي احتاجها كثيرون لاكتشاف أن البديل الديمقراطي مطلوبٌ ولاكتشاف أنه بديلٌ ممكن. إلا هذا الاكتشاف لا يكفي. فصياغة ذلك البديل الديمقراطي وتعبئة الناس حوله لا تتحققان إلا باستعادة قوى التيار الوطني الديمقراطي دورها النضالي وإنهاء ممارساتها التبعية للسلطة ولممثلي التعاضديات المذهبية
.
أختم هذه الملاحظات المتفائلة باستعادة مثلٍ غربيٍ يقول إن ''عصفوراً واحداً لا يصنع الربيع''. بمعنى أن الربيع لا يُطلُّ لمجرد أن عصفوراً حلَّق فجأة ثم اختفى أواصطادَه صيّاد. فلا بُدَّ كي يثبت الربيع أن تنطلق كل العصافير عدا تلك التي استمرَأَت البقاء حبيسة أقفاصها الذهبية. ولهذا عليْنا أن ننتظر لنرى إذا ما كانت الصياغة ''التحريرية'' لذلك البيان مجرد ضربة في الهواء أم هي تعكس تغييراً جدياً في قراءة المنبر لمعطيات الواقع السياسي والاجتماعي في البحرين. وفي كل الأحوال علينا أن ننتظر أيضاَ لنرى مدى قدرة هذا الموقف الجديد على الصمود والتطور حتى يتمكن المنبريون من استعادة المكانة والدور اللذيْن صنعتهما تضحيات من سبقوهم منذ منتصف خمسينات القرن الماضي
.
.
------------------------------
.
.
.
No comments:
Post a Comment