ندوة نادي الخريجين حول
المواطنة الدستورية
15/5/2001
............................
لقراءة مقدمات الإستنتاجات التالية يمكن الرجوع إلى النص الكامل لهذه المحاضرة ً
..................................
سوف أطرح أمامكم فيما يلي بعض، وليس كل المعيقات الأساسية التي تواجه المشروع الإصلاحي، وتعيق بالتالي بناء الدول الدستورية وتأسيس المواطنة الدستورية.
وقبل أن أسردها باختصار، أقول إن أغلبها أمور اعتيادية تواجه أي نظام يسعى إلى الانفراج ويطمح في أن يصبح ديمقراطياً . ويبدو لي من متابعتي إن القائمين على تخطيط هذا المشروع في بلادنا قد درسوا اقتراحات وتوصيات وإرشادات Linz وHuntington وتلاميذها. وهم يعرفون بالتالي إن للانفراج السياسي تبعات ربما أهمها هو السعي، مع المعارضة، إلى تذليل العقبات ومعالجة المعيقات. فلا يمكن أن يكون الإصلاح السياسي مشروعاً من طرف واحد.
والآن لنرى بعض المعيقات الأساسية:
أول المعيقات التي تواجه المشروع الإصلاحي هو انعدام الثقة بين المواطنين بأنفسهم وبالدولة. فكما تلاحظون مازالت أجواء الانفراج حذرة ومازال التوجس ملحوظاً ... وهذا يعني ببساطة إن أمامنا الكثير لمعالجة آثار تاريخنا.
نحتاج إلى إجراءات ملموسة لإزالة آثار عقود من تهميش الناس، من آثار الخوف المزروع، من آثار انعدام محاسبة الفاسدين والمفسدين، ومن آثار قناعة ترسخت بان المواطنين رعايا.
باختصار، أيها الأخوات والاخوة، نحن بحاجة إلى إعادة بناء رأسمالنا الاجتماعي، الذي نراه مكوناً هاماً ولازماً من مكونات العصبية الخلدونية التي لا بد منها لبناء ومنعة الدولة.
ونحتاج في هذا الصدد إلى جهود دؤوبة ومتكاتفة من جميع الأطراف، من الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، لكي نستطيع شيئاً فشيئاً إعادة بناء رأسمالنا الاجتماعي المهدور وتطويعه ليتلائم مع متطلبات بناء الدولة الدستورية .
لقد قال الدكتور علي فخرو في مداخلته الهامة في نادي العروبة إن الدولة قد تصالحت مع المعارضة قانونياً واقتصاديا... والكلمة المفتاح هنا هي إن المصالحة جاءت من طرف واحد ومحصورة في إطارين ضيقين، رغم أهميتها.
المصالحة المطلوبة هي مصالحة بين طرفين... بين طرفي العقد الذي سنبني على أساسه دولتنا الدستورية العتيدة ، وعلى أساسه سنؤسس هويتنا المشتركة ومواطنتنا الدستورية.
ولا يمكننا أن نتصالح قبل أن نتصارح
قد لا يرى البعض أهمية محاسبة المسئولين عن انتهاكات حقوق الإنسان وعن تدمير رأسمالنا الاجتماعي.
ولربما يقال، بإخلاص، إن هذا ليس وقت هذا الترف... ولكن المصارحة التي أدعوكم للتفكير فيها تعنى توثيق وتدقيق الروايات التي تتداولها الناس عن انتهاكات حقوقها وعن تجاوزات قامت بها أجهزة الدولة المختلفة بما فيها أجهزة الأمن.
نعم نحن نعرف الكثير من هذه الانتهاكات. ولدى المعنيين من الناشطين في هذا المجال ما يكفي من الوثائق والشهادات لتقديم عدد من المسئولين عن تلك انتهاكات إلى المحاكمة، كما هو معلوم، حتى في بريطانيا وهي أكثر البلدان تشدداً في توفير شروط المحاكمة العادلة.
نعم لدينا الكثير ولكن المخفي أعظم.
لا أدعو هنا إلى إحالة كل من ساهم في انتهاكات الماضي إلى المحاكمة.... فلسنا جنوب أفريقيا ولست ديزموند توتو، كما إن المطلب ليس واقعياً على أية حال ولا يساهم في بناء الوطن الذي يضم الجميع ويغفر خطايا بناته وأبنائه.
لكننا إذا ما أردنا أن نبداً صفحة جديدة وأن نمضي قدماً في إعادة بناء رأسمالنا الاجتماعي فعلينا أن نتصارح تمهيداً لتصالحنا.
ثانياً – أما العقبة الثانية فهي ما أسميه بانعدام المساحات المشتركة وهذه العقبة تجد أصولها في التعددية الاثنية بأشكالها المختلفة في البحرين. آلا أن محركها الأساسي كانت سياسة النظام التفتيتية طوال العقود الماضية وكذلك عجز الحركة الوطنية في ظروف العمل السري عن مواجهة انعكاسات تلك السياسة.
لدينا مناسبات كثيرة نحتفل بها طائفياً أو سياسياً أو اجتماعيا أو مهنياً... لكن ليس لدينا ما نحتفل به معاً كمواطنين...
وكما نحن، فللدولة مناسباتها التي لا نشارك فيها إلا سنعاً أو خوفاً أو طمعاً.
وكما هو الحال مع المناسبات فهو حالنا مع الرموز التاريخية... فحتى يوم الاستقلال أضحى يوماً تختص المعارضة بالاحتفال به بينما تتجاهله الدولة وخاصة سفاراتها في الخارج.
ويرتبط انعدام المساحة المشتركة باختلاف التاريخ الرسمي عن التاريخ الشعبي، ففي الوقت الذي يبدأ التاريخ الرسمي عام 1783 ، يستعيد التاريخ الشعبي أموراً لا ترغب الدولة في استعادتها...
نحتاج أيها الأخوات والاخوة إلى استعادة وبناء تاريخنا المشترك الذي يكون عام 1783 نقطة في مساره بدلاً من أن تكون نقطة بدايته.
غابت المساحة المشتركة لأن الدولة رضيت لنفسها أن تكون بالوناً فوق الناس، لها عالمها ولهم عالمهم، لها مناسباتها ولهم مناسباتها.
تشديدي على المساحة المشتركة قائم على اعتبارها ، في مجتمع متعدد الثقافات، هي إحدى أدوات الاندماج في الوطن... وإحدى مسوغات المواطنة.
لا أشك في إنه إذا ما سارت على ما يرام فان 14/15 فبراير سيكون أحد أول مساحاتنا المشتركة. وقد تكون الذكرى الثلاثين لإعلان الاستقلال احتفالا بتدشين المساحة المشتركة بين الناس من جهة والدولة من جهة أخرى.
آلا إن هناك أمور كثيرة قد تبدو غير مهمة بمفردها، إلا إنها تؤكد إصرارنا جميعاً على الاندماج في الوطن .
لدينا في تاريخنا شخصيات جليلة من بينها قادة هيئة الاتحاد الوطني الذين مهدت جهودهم الرائدة الطريق إلى هذا الانفراج السياسي الذي نعيشه.. تلك الجهود التي وضعت أولى لبنات الاندماج الوطني الذي نطمح إليه.
هل يضير الدولة أن تسمي شارعاً باسم كمال الدين أو الباكر أو العليوات أو الشملان أو الموسى رحمهم الله أو باسم إبراهيم فخرو أطال الله عمره وحفظه؟
هل يضير الدولة أن تسمي شارعاً باسم الدستور أو المجلس الوطني؟
هل يضير الدولة أن يحتفل الناس هذا العام بالذكرى الخامسة والأربعين لمحاكمة ونفي وسجن قادة الهيئة عام 1956؟
أمور رمزية كلها، لكنها مثل العلم ومثل النشيد الوطني، رموز تخلق مساحات مشتركة تخفف الاحتقان الظاهر والباطن وتفتح المجال واسعاً أمام اندماج وطني لا غنى لدولة دستورية عنه.
ثالثا : يشكل احتكار الأعلام عقبة رئيسية من عقبات تطوير الانفراج السياسي وتحوله إلى إصلاح سياسي.
فمهما كانت نوايا سمو الأمير صادقة ومهما كانت ثقة الناس به فإن بعض مرؤسيه في أجهزة الأعلام مازالوا كما نعلم علم اليقين، وبالتجربة الملموسة، يعيشون أجواء ما قبل الانفراج...
ونتيجة لخوف مترسخ في الأنفس أو بسبب سوء ظن بعضهم بالمشروع الإصلاحي أو بسبب معارضتهم غير المعلنة له، فإن ممارساتهم تسيء للمشروع الإصلاحي وتخفض سقف حرية التعبير الذي يتيحه.
ولقد خبرت شخصياً وبالملموس كيف يقلص هؤلاء، بسبب خوف أو تزلف وتمجد، مساحة الحرية ورأيت كيف ينسبون قراراتهم الشخصية المرعوبة إلى "جهات عليا" .
تؤكد هذه الممارسات للناس، رغم ثقتها في إخلاص الأمير، إن الأمر لا يعدو أن يكون زفـّة علاقات عامة.
ألم يكن بإمكان التلفزيون أن ينقل صوراً ومقابلات عن تجمع العاطلين مؤخراً؟ بدلاً من أن يركز جهوداً كثيرة على محاولة تجميل صورة الوزير؟
ألم يكن بإمكان التلفزيون والصحف أن تنقل إلى الناس صورة ضافية عن ندوة نادي العروبة قبل أيام حول أوليات العمل الوطني؟
فعلى الرغم من كل حسن النوايا يبقى احتكار الأعلام هو كعب أخيل المشروع الإصلاحي. ويبقى سقفه المنخفض والذي يزداد انخفاضا يوماً بعد يوم أحد مؤشرات الخطر الكامن.
أما العقبة الرابعة التي أود الحديث عنها فهي هشاشة المجتمع المدني.
تشير دراسة Robert Putnam الشهيرة وآخرين غيره إلى إن هشاشة المجتمع المدني تعرقل الاندماج الوطني وتزيد، بالتالي، مصاعب بناء الدولة الحديثة وتأسيس المواطنة الدستورية.
من الواضح إننا نحتاج في هذا المجال إلى جهود دؤوبة ليس فقط بهدف تنظيم الناس سياسياً بل وأيضاً بهدف تشجيع تواصلهم اجتماعيا. فعن طريق هذا التواصل والعمل المشترك يكتسب الناس خبرات مشتركة وتزداد متانة الثقة المتبادلة بينهم، ويصوغون قواسم مشتركة لا تلغى فردية أي منهم ولكنها تخلق جسداً أسمه الوطن..
أما العقبة التالية أو قل مجموعة العقبات، فهي تلك التي تتولد عن أشكال التمييز الجمعي.
مما لا شك فيه إن أي إصلاح سياسي لابد وأن يتضمن الآليات القانونية والإجرائية اللازمة لإنهاء أشكال التمييز الجمعي القائم على انتماءات الأفراد الاثنية أو الدينية أو الجنسية. ولقد لاحظنا بسرور إن أجواء الانفراج قد تلازمت مع عدد من الإجراءات التي اتخذها الأمير لتخفيف بعض مظاهر التمييز الجمعي السلبي.
وليس لي آلا أن أتمنى استمرارها وتسريع خطواتها.
لا أشك شخصياً في إخلاص وعود الأمير في هذا الاتجاه... ولا في أهمية الالتزامات القانونية والدولية التي تفرض على الدولة مكافحة هذا النوع من التمييز.
إلا إن لدينا كما هو معروف تمييز جمعي من نوع آخر، ألا وهو التمييز الإيجابي تجاه مجموعة معينة من سكان هذا البلد.
ويتمثل هذا التمييز في الامتيازات التي تتمتع بها بنات وأبناء العائلة الخليفية.. وهي امتيازات غير متاحة حتى لأكثر فئات المجتمع حظوة.
لا أقول هذا حسداً ، حاشا الله. ولكني أقوله لقناعتي بأن بقاء مشكلة الامتيازات العائلية دون حل ستؤدي إلى إفراغ المشروع الإصلاحي من محتواه، وسيجهض جميع جهودنا نحو تعبئة الناس لبناء الدولة الدستورية.
إن البون شاسع، أيها الأخوات والاخوة، بين المحرومين وبين ذوي الامتيازات ... ولن يصدقنا الناس حين نطالبهم بالاندماج في الوطن في حين نعفي بنات وأبناء العائلة الخليفية من واجب وحق الاندماج في الوطن.
أعرف إن سمو الأمير على وعي بأبعاد هذه المشكلة، ولا اشك إنه سيستطيع أيجاد الحلول المناسبة لها. فعسى الله أن يثبت أقدامه ويسدد خطاه.
يتطلب الاندماج في الوطن عدداً من الإجراءات القانونية والسياسية كما يتطلب جهوداً دؤوبة على صعيدي التربية والأعلام. لن تكون المهمة سهلة ولكنني على ثقة إن تضافر جهود جميع الديمقراطيين في النظام وفي المعارضة سيوفر المناخ اللازم لتسريع اندماج الجميع، دون استثناء، في الوطن. ويرتبط بهذا ، إذا ما سمحتهم لي بتحوير بعض إشارات Huntington Linz، الإشارة إلى ضرورة أن نتوافق جميعاً على انه حين تصبح البحرين دولة دستورية، فان العائلة الخليفية ستتطور أيضاً من عائلة مالكة إلى عائلة ملكية.
الخاتمة
لا يمكن قيام الدولة الدستورية بين ليلة وضحاها، ولا يمكن تأسيس المواطنة الدستورية عن طريق التمني أو على طريقة كن فيكون، أو عن طريق الأغاني والأناشيد...
المصاعب والعقبات كثيرة... ولقد عددت بعضها ولم أذكر الكثير منها مما تعرفون... وعلى الرغم من كثرة العقبات والمصاعب فليس أمامنا جميعاً، أميراً وشعباً ونخباً معارضة وموالية، آلا أن نتكاتف في طريقنا إلى الهدف المشترك.
وقبل أن أتوقف، اسمحوا لي أن أشير مرة أخرى إلى ما يمكن أن نتعلمه من سلسلة من الانفراجات السياسية في مختلف أرجاء العالم طوال العقود الثلاثة الماضية.
إن إحدى نتائج الانفراج السياسي، كما تلاحظون في الشارع البحريني الآن، هو أنه يفتح الباب تدريجياً أمام حركة شعبية أكثر أتساعا من المعارضة السابقة للانفراج... ويفتح إمكانيات تعبئة قوى اجتماعية كانت مهمشة في الماضي أو مقموعة....
وعلى الرغم من كل إيجابيات اتساع الحركة الشعبية وإمكانات التعبئة الاجتماعية والسياسية، فأنها تعطي للمترددين ضمن النظام حججاً ومبررات للدعوة إلى التراجع عن الانفراج، أو على الأقل إيقافه عن حدوده الراهنة.
وما التهديدات والتحذيرات والتي نسمعها بعد كل ندوة ... إلا إشارات على تململ الحرس القديم الذي لم يقتنع ولم تقتنع بطانته، بـل وحتى الانتهازيين والمتمجدين (حسب الكواكبي صاحب الاستبداد ومصارع الاستعباد) في صفوف قادة البلاد الإصلاحيين، لم تقتنع بجدوى الانفراج الراهن... ناهيكم عن عدم اقتناعهم بجدوى الإصلاح السياسي ومن ثم التحول نحو الديمقراطية والدولة الدستورية والمواطنة الدستورية.
بالنسبة لهؤلاء سيبقى الوطن مزرعة وسيبقى المواطنون رعايا
No comments:
Post a Comment