Blog Archive

Wednesday, October 04, 2006

درس العراق

مقال قديم

.


ما يعاني العراق منه هذه الأيام هو صورة قاتمة عن المصير الذي يتولد عبر ممارسة الحكم إعتماداً على تفتيت المجتمعات و تشـطيرها في شـكل تعاضديات إثنية أو مناطقية أو إجتماعية. قد ينجو العراق , بحكمة أهله , من مصير بلدان أخرى , مثل ليبيريا أو الصومال , التي إنتهج حكامها ,أيضاً , إستراتيجيات تشـطيرية ثبت عقمها التاريخي. ا
إلا إن أملنا في نجاة العراق لا يلغي ضرورة أن نتعلم من المآسي التي يمر بها أهلنا فيه و ما تعاني منه الصومال و ليبيريا و غيرهما. لم يتوقع أهل الحكم في تلك البلدان سهولة إنهيار أنظمة حكمهم و لا ســرعة إنفراط عقد مجتمعاتهم , التي يعاد تشـــكيلها , الآن , على أسس إثنية و قبلية و طائفية و مناطقية . ا
.
ما يثيرالإستغراب فعلاً هو كيف عجزت أنظمة الحكم في تلك البلدان عن أن ترى إن إستراتيجية التشــطير التي تقود , في أحسن الأحوال , إلى إستقرار وقتي , تقودُ أيضاً إلى إبقاء الدولة و النظام و المجتمع عرضة لإبتزاز الأطراف الإثنية و القبلية و الطائفية و المناطقية . و هي تقودُ أيضاً إلى إبقاء المستقبل السياسي في الدولة و المجتمع تحت تهديد قنبلة موقوتة تنفجر لحظة يفشل النظام في تلبية مطالب مممثلي هذه الأطراف. تفاســير هذا الفشــل قد نجدها في خطل قراءة أهل الحكم في تلك البلدان لواقع بلدانهم , و قد نجدها في إستغراقهم في خداع الذات أو فيما يتولد عن السلطة المطلقة عنجهية و غرور. ا
.
المستفيدون من إستراتيجية تشــطير المجتمع , ســواءً أكانوا من النخب الحاكمة ام من النخب المتنافســة معها , هم أنفســهم المتضررون من بناء دولة قوية. يعرف الطرفان , كلاهما, إن نفوذهما , في هرم السلطة و في هرم المجتمع , ينتفي حين تقوم دولة قوية يرتبط بها مواطنوها إرتباطاً قائما على إقتناع و رضا و ليس على خوف أو طمع. و يمكن في كل حالة , في الصومال او ليبيريا أو العراق أو غيرها, متابعة كيف أبدع الطرفان "المتنافســان" في أساليب إدامة التشــطير ومنع التوجه نحو تأسيس الإنتماء لوطن كهوية موحدة تتفوق على الهويات و الإنتماءات الأخرى دون أن تلغيها بالضرورة. كما يمكن متابعة كيف أعطيا الأولوية للمكاســب قصير الأمد التي تخصهم شــخصياً أو تخص وجهاء التعاضديات التي يمثلونها و كيف أسكتوا دعوات من أرادوا تحصين المجتمع و الدولة و تعزيز قدراتهما على مواجهة الهزات المستقبلية.ا
.
لا جدال في إن إستراتيجية التشــطير , بأشــكالها, توفر للحاكم أدوات مجربة تمكنه من المحافظة على إستقرار نظامه عبر إرضاء ممثلي التعاضديات أحيانأ , عبر منعهم من العمل المشــترك لتحقيق أهداف مشـــتركة , و عبر تحفيزهم على إنهاك بعضهم البعض في تجاذبات جانبية لا تتعرض لا تؤثر في قدرة النظام على ممارسة ســلطاته. ا
.
إلا إن من الواجب التأكيد على إنه لا جدال أيضاً في إن إلا إن هذه الإستراتيجية لا تخلق دولة . بل إن ما حدث في الصومال و ليبيريا , و ما يتهدد العراق , يشـــير إلى ما يتوفر من إستقرار عن طريق تشــطير المجتمع إثنياً أو قبلياً أو طائفياً أو مناطقياً إنما هو إستقرار مخادع قد يبهج الحاكم الغافل و لكنه لا يلغي ما يمور تحت الأرض من تحركات لا تراها العين و لكنها قابلة للإنفجار في شــكل هزّة أو زلزال , حين تتزامن عدة معطيات كما حدث في الصومال و ليبيريا و كما نخشــى منه على العراق. ا
لا تحدث الزلازل عشــوائياً , بل هي تصيب مناطق معينة بذاتها وبحكم ما توفره تركيبتها من إستعدادات. بعض المناطق تضربها هزةٌ أرضية خفيفة و بعضها الآخر يضربه زلزالٌ شــديدٌ فيحيلها هباءً منبثا. و الزلزال لا يحدث من عدم و بدون مؤشــرات و نُذُر بل يمكن للمختصين توقع إحتمال زمانه و مكانه إعتماداً على مؤشــرات قد تأخذ صورة تصدعات منظورة في سطح الأرض أو إعتماداً على متابعة تزامن حدوث ظواهر طبيعية محددة . أتحدثُ عن الصومال و ليبيريا , و أكاد اأقول العراق, لأن ما حدث في هذه البلدان لم يقتصر على سقوط أنظمة الحكم فيها , لا حتى على تفكك الدولة . فلا هذا و لا ذاك بجديد و لا هو بمستغرب. فانظمة الحكم لا تدوم و كذلك الدول. ما حدث في الصومال و ليبيريا , و أكاد اأقول العراق , هو إن ما أصابها من هزّات و زلازل أدت إلى إنهيار المجتمع برمته و عودته إلى مكوناته الأولى ما فبل نشـــوء الدولة الحديثة : قبائل و طوائف و عصبيات مناطقية . لا تنهار المجتمعات فجأة و لا عشــوائياً .ا
.
إنهيار المجتمعات هو , في بعض مظاهره و نتائجه مثل الزلزال الذي لا يمكن التنبؤ به على وجه التحديد و لكن يمكن الإجتهاد في توقعه. ومع إن قدرات ممارسي علم الإجتماع الســياسي هي أقل بكثير من علماء الزلازل , إلا إنه يمكن إدعاء بعض أمور منها إن المجتمعات القوية وحدها التي تستطيع الصمود أمام الهزّات مهما كانت شــدتها. و أســاس صمودها هو قوة الترابط بين شــرائحها و فئاتها و هو ترابط يقوم على التراضي لا على خوفٍ من أهل الحكم أو على طمعٍ في عطاياهم. المجتمع القوي الذي يستطيع الصمود في وجه الهزات إنما يقوم في ظل دولة أقتنع غالبية مواطنيها بشــرعيتها . دولةٌ لا تنحصر جهودها في تثبيت هذا الاقتناع لدى مواطنيها في شـــكليات الممارســة السياسية بما فيها الإنتخابات الدورية على ســبيل المثال بل تمتد هذه الجهود لتشــمل ممارســاتها اليومية , كما تشــريعاتها. الدولة القوية هي التي يقتنع مواطنوها بأن إنتمائهم إليها هو إنتماءٌ نهائيٌ لا يجب أن تنافســه انتماءاتهم الأخرى الإثنية منها أو الطائفية أو القبلية أو المناطقية.ا
.
لا يمكننا , في البحرين , أن نتلافى التعرض لمثل التجربة الأليمة التي تعاني منها الصومال أو ليبيريا , أو التي تتهدد العراق , عن طريق التمنيات أو عبر اللجوء إلى ما هو معروف من أســاليب خداع الذات بما في تلك توجيه اللوم إلى أصابع خارجية إقليمية أو دولية. بل نحن نحتاج إلى وقفة جدية مع تاريخنا لنستنطقه حول ما هو ملائم لمجتمعنا من جهودٍ تؤدي إلى تلافي الهزّات أو الزلازل "المفاجئة" التي ضربت دولاً و مجتمعات بدت, يوماً ما , أكثر قوةً و تماســكاً مما كانت عليه في الواقع.
.

No comments: